كنت من هواة المشي ، من
المشائين الأوائل والكبار إن شئتم الحقيقة
، لا تعنيني المسافات كثيرا ، أقطعها حين أقرر مهما كانت بعيدة ، كان من المعتاد
مثلا ان أسير من حديقة الحيوان إلي حدائق القبة ، من الحدائق إلي أقصي مدينة نصر ،
وربما كانت آخر سباقات المسافات الطويلة
قبل عدة سنوات حين قطعتها وهاني
درويش من وسط البلد إلي عزبة النخل ،
المشي هواية مناسبة جدا لمن هو في ملكوت الله مثل اخوكم
، وكانت أمي
تدعو إخوتي الصغار للاقتداء بي ،
كانت تُقدر جدا قدرتي علي الذهاب إلي أي
مكان في سن مبكر وتري أنني ( صعلوكا حقيقيا ) ، كنت اعرف شوارع القاهرة دربا دربا تقريبا من
سن مبكر جدا ، ولذلك كان الطبيعي
مثلا أن أسافر للأسكندرية بمفردي
في سن الثانية عشر ممتطيا قطار الدرجة الثالثة ، ثم في العام الذي يليه أصطحب معي
ابناء العمومة إليها أيضا
وللمشي قصصه وحكاياته ،
والمشاء المحترف يترك قدمه تسير به ولا
يوجهها ، وكان هذا ما أفعله ،ربما نمت هذه الهواية وترعرت في ختام المرحلة
الإعدادية ، كنت أذهب إلي دروس يومية في مسجد ( الحريتي ) بالضاهر
، ولأن المسافة لم تكن بعيدة بين الضاهر والحدائق قررت علي سبيل التجريب أن اذهب سيرا ، وعلي
ذلك انطلقت من مصر والسودان إلي غمرة إلي الضاهر
، الطريق سهل وواضح ، المسجد في ميدان
بركة الرطل ، أقطع شارع رمسيس حتي السمتشفي القبطي واعرج
يسارا لأصبح في قلب الضاهر حيث المسجد
الموقع المميز لحي
الضاهر وإمكانية الوصول إليه من عدة نقاط
مختلفة كان هو السبب الرئيسي للتجريب
، فبدلا من المشي في شارع رمسيس المباشر ، فكرت وقتها ان أختبر الوصول من الشوارع الجانبية أو من طرق أخري ، وكان ذلك ممتعا ، لدرجة انني
كل يوم من أيام الأسبوع كنت اذهب من طريق مختلف ، أحيانا أخترق
منطقة قصر السكاكيني حتي مسجد
الضاهر بيبرس ومنه إلي بركة الرطلي ، أحيان اخري
ترماي العباسية حتي مستشفي سيد
جلال ومنها إلي ( الطشطوشي ) الشهير بباب الشعرية ، وأحيان أخري
ترماي شارع بورسعيد من ناحية
الزاوية الحمرا حتي منزل كوبري غمرة ثم سيرا علي الأقدام ، وهكذا ، كان اكتشافا مثيرا في وقتها
أن تكتشف مداخل ومخارج متعددة
لمكان واحد ، ومن هنا بدأ التجريب
اللانهائي ، السير دون تفكير ، ستصل حتما
وستكتشف طرقا جديدة ، ودهشة أن تكتشف طريقا يصل
نقطتين ببعض لم تكن تتصور انه يمكن الوصل بينهما
ورصيد الحكايات من تلك
الايام كبير ، من نافلة القول ان تذكر كم
المرات التي كنت تسير فيها شاردا هائما
ثم تصطدم فجأة بصديق ، وكل مرة من
هذه المرات التي تلتقي خلالها
بأصدقاء ينتهي اليوم بحكاية وقصة لم تكن
في الحسبان أصلا ، في إحدي المرات في شارع
الأزهر ليلا التقيت بصديق ، كنا قد تخرجنا
، اخوكم من آداب وهو من كلية
الهندسة ، تمشينا قليلا ومزحنا قليلا
ودار بيننا رهان علي شيء ما وكسبت الرهان وكان عليه التنفيذ والالتزام ، ولم يكن في بالي
أي فكرة عن قيمة الرهان ، أثناء
التفكير مر بجوارنا ترماي (
السيدة / المطرية )، و سدادا للرهان الذي خسره أجبرته علي ركوب
( سبنسة الترماي ) ، متسلقا الترماي من الخلف مع الأطفال والصبية ، مانع بقوه في
البداية ورفض بإصرار طبعا ( وازاي عايزني اعمل كده
انا مهندس ) ، لكنه استجاب
ورضخ ، واتشعبطنا احنا الاتنين ، كانت أول
مرة يفعل فيها ذلك ، وكنت محترفا بالطبع ، لكن الغريب انه استمتع جدا بالرحلة التي قطعناها متشعبطين في مؤخرة الترماي من الموسكي إلي الزاوية الحمرا ، ولا أذكر في حياتي أنني
ضحكت مثلما ضحكت في ذلك اليوم .
كنت أسير في وسط
المدينة متجها إلي شارع القصر العيني ، بعد عبور تقاطع محمد محمود مع القصر العيني
سمعت صوتا خافتا يهمس ( عمر ) ، التفت
أبحث عن مصدر الصوت ، لم أجد احدا أعرفه ، تكرر الصوت ، دققت النظر
فوجدت فتاة مهلهلة الملابس وفي حالة سيئة ، دققت في ملامحها فوجدتها
صديقة قديمة ، سألتها مندهشا
إزيك يا ... ، ايه اللي جرالك وأيه اللي عمل فيكي كدة ؟ قالت
بخفوت ( تعبانة وديني لأي دكتور بسرعة ) . ، خدتها في إيدي
وطلعنا ع المكتبة أخدت الفلوس اللي
في الدرج ، ركبنا تاكس وعلي مستشفي
المنيرة ، دخلنا وقعدنا واستنينا الدكتور
، كشف عليها وسألني عنها وعن حالتها
، قلت له ما اعرفش أي حاجة ، انا كنت ماشي وقابلتها بالصدفة وجبتها علي
هنا ، قالي انها محتاجة للراحة بس وتاخد
الدوا ده وكده ، كتب لنا روشتة ، اشتريناها من الصيدلية ومشينا
سألتها هتروحي فين ، كان الوقت قد تأخر
والحل الأفضل أن تأتي معي إلي منزل الأسرة في المطرية ، وقد كان خدنا المترو من التحرير إلي المطرية ، وهناك كانت أمي في استقبالي ومعاها
لفيف من ذئاب الجبل ( عماتي
الاتنين وخالتي ) ، حكيت لها اللي حصل ، وتكفلت عماتي وأمي
بها يومين متتالين ، وواضح انها
كانت تحتاج هذه الصحبة ، قعدوا
يهزروا معاها ويحكوا حكايات ويدوها الدوا لغاية ما حالتها اتحسنت فعلا
ومشيت ، المهم ان عمتي فضلت
سنوات طويلة تفكرني بالقصة دي ووتسخر من عمايلي ومن اللي بعملو فيهم
ونكمل بعدين