Monday, November 13, 2017

السرد الذاتي الوثائقي في «الثورة المصنوعة» لعمر قناوي.. مصر بين «القلب الصلب» والميادين- بقلم حمزة قناوى


السرد الذاتي الوثائقي في «الثورة المصنوعة» لعمر قناوي..
مصر بين «القلب الصلب» والميادين
حمزة قناوي*
تمثل رواية «الثورة المصنوعة» لـعمر قناوي تحدياً نقدياً، لكونها نوعاً خاصاً من السَّرد، أسميه بـ«السرد الذاتي الوثائقي»، وهو أحد جوانب السيرة الذاتيَّة– التي لم تلقَ حقَّها النقديَّ في العالم العربي - فالسيرة الذاتية وفق تعريف فيليب لوجون: «حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية أو على تاريخ شخصيته بصفة خاصة»[[1]]، وفي حالتِنا هنا يهتم الراوي ليس بذاتِه كشخص، وإنما بالسيرة الذاتية «للوطن»، ولأحداث تاريخية بعينها، شاءت الأقدار أن يكون الراوي شاهدًا عليها، وهي بذلك تتمايز عن المعتاد من أنواع السيرة الذاتية، التي يتوافر فيها جميعا شرطَا «الحكي الاستعادي»، و«الشخص الواقعي»، ولكن ليس هناك تركيزٌ على الحياةِ الفرديَّة، أو التأريخ الخاص بالشخصية، وإنما على الحياة العامة، على تأريخ لمرحلة ملتبسة ومُهمَّة في حياة الوطن.
من هذا الموضع الخاص، ننطلق في قراءة الرواية التوثيقية، التي يتضح من بدايتها أن السَّارد أراد أن يُوجِد لنفسه سمتاً خاصاً في طريقة تقديم الحكي بها، أراد أن يوثِّق الوقائع وشهادته عليها من ناحية، وأن يجذب القارئ مباشرةُ لقلب الأحداث، أو- لو شِئنا الدِّقة- لقلب التفكُّر والتبصُّر في الأحداث وفيما آلت إليه من ناحية أخرى، ومن ثم خالف المعتاد من الكتابة بضمير «الأنا»، الضمير الأشهر في كتابة السيرة الذاتية[[2]]، إلى ضمير الغائب. يقول:  « صباح السبت  30 يونيو 2012، استيقظت مصر على وضع سياسى  جديد  رسمياً بصعود رئيس ينتمى لجماعة الإخوان إلى سدة الحكم، والذى  جاء صعوده  بعد معركة حامية  ضد  منافسه أحمد شفيق،  حسمها مرشح الجماعة بفارق ضئيل، كان  فوز مرسى بالرئاسة مقبولاً، فهو فوز وصعود  (متمِّم بشكل أو آخر)   لما بدأه المصريون فى  25 يناير،  والذى كان الإخوان شركاء فيه، خاصة أن منافسه محسوب على النظام السابق؛ ومن غير المقبول أن يصعد المصريون بعد ثورة شعبية بمُرشَّح ينتمى لنظام أسقطوه، كما أن قوة  التيار الإسلامي بفصائله، كفيلة بترجيح كفة أي مرشح ينتمى لهذا التيار  ضد منافسيه.»
نلاحظ في الراوي هنا تقديم الأحداث بشكل يشبه التقديم الإخباري، خاصةً مع التوثيق وذكر التأريخ، وبرغم السهولة اللافتة لهذا التقديم فإنَّ الأمر أشبه بالسهل الممتنع، فالأحداث التي يأخذنا إليها عمر قناوي شهدت الكثير من الصراعات، وشهدت الكثير من الالتباس، ومثلما يوضِّح هو نفسه في موضعٍ لاحق أنه لا أحد يمتلك كامل الحقيقة في مثل هذه الأحداث، فإن الراوي نفسه أيضاً لا يمتلك كامل الحقيقة، ولعلَّ هذا ما جعل الراوي يميل لتقديم الأحداث بهذه الطريقة التي كان من ثمارها أنها تذكرةٌ للقارئ بوقائع قد يتناساها العقل العربي في ظل تسيُّد الذاكرة القصيرة التي تهيمن عليه عادةً تجاه التاريخ، ومن ناحية ثانية فقد ضَمِنَ أسلوب السرد السلس شَدّ وتشويق المتلقي للنهاية، وهو أمرٌ صعبٌ في مثل هذا النوع التوثيقي من الأعمال، الذي يتحدَّث عن وقائع معلومة سَلَفَاً للكثير من القراء، ومن ثم كان الحفاظ على تشويق المتلقي حتى آخر لحظة، بمثابة تحدٍّ كبيرٍ، نجح الكاتب في تحقيقه في تصوري.
لم يدخل المؤلف في صراعات إيديولوجية في القضية التي تشهد مصر والعالم العربي أجمعه الآن بعضاً من الاكتواء بنارها، ألا وهي قضية الصراع مع الإخوان المسلمين، لم يناقش أفكارهم ولا معتقداتهم ولا أوهامهم عن الخلافة، وغيرها من الأفكار التي قد يأخذنا الجدل بشأنها كل مأخذ، وإنما كان حريصاً على سرد الوقائع التي تثبت فشلهم وعدم قدرتهم على إدارة دولة، يقول: «الطريف في الأمر أيضاً أن الإخوان عقب حل مجلس الشعب  (اعتماداً على ضعف ذاكرة الناس ربما، أو تعقُّد تفاصيل المرحلة الانتقالية وتداخلها) روَّجوا لوجهة نظرٍ تقول إن حل البرلمان كان مؤامرةً من المجلس العسكري، متناسين  أن أعضاء «العسكري» حذَّروهم من أن تشبُّثَهم بالمنافسة على مقاعد المستقلين قد يؤدى لعدم دستورية المجلس (العصَّار وحجازي أشارا لذلك في حوار بتاريخ 27يونيو 2012 مع الإعلامي عماد أديب فى برنامج بهدوء )».
بهذا الشكل الهادئ والرَّزين، يوضح قناوي الأخطاء التي أوقع «الإخوان المسلمون» أنفسهم فيها بالحكم، وما جعلهم يحفرون بأيديهم مقبرتهم السياسية، وكيف خاض الشعب المصري مدعوماً من أجهزتهِ وجيشهِ نضالاً شابَه الكثير من العنف في مواجهة الإخوان، والكثير من التهكُّم والسخرية من هذه الجماعة التي «أعجبتها كثرتها»، كما يقول الكاتب.
كان المؤلِّف قد أشار في رواية سابقة «خبَّرني العندليب» إلى «القلب الصلب للدولة»، الذي يقول عنه على لسان أحد أصدقائه: «في مصر حاجة اسمها (القلب الصلب للدولة)، هذا الكيان مهمته باختصار الحفاظ على الدولة حين تهددها أخطارٌ حقيقيَّة، التدخل للحفاظ على الدولة... »[[3]]، وهو ما مثَّل مفاجأة للكثيرين حول دور بعض الأجهزة السيادية والقوات المسلحة في إسقاط نظام مبارك، لكن الصديق الذي تعرف عليه قناوي من «القلب الصلب» قد تركه ورحل عنه مع اختياره لـ(مرسي) ليعود من جديد للصداقة إليه، ولإمداده بالمعلومات بعدما استشعر الجميع خطورة جماعة الإخوان المسلمين على الدولة المصرية، وبات من الواضح أنه لا بد من التكاتف لإزاحة هذه الجماعة من الحكم، فكما يقول الراوي: « وكان القلق قد بدأ  يتنامى  في المجتمع أيضاً  من تصرُّفات الجماعة خلال أول شهرين لهم في السلطة، خاصةً بعد الإطاحة بطنطاوي التي لم يتوقعها أحد بسبب حالة التفاهم التي كانت سائدة بين المجلس والإخوان خلال معظم فترات المرحلة الانتقالية (برغم بعض الخلافات أحياناً)، كما أن الإخوان أنفسهم جاء صعودُهم للحكم بترحيب (نِسبي) من «العسكري» برغم أن مرسي  لم يكن المرشح المفضل لهم  أو لأجهزتهم،  وهذا أيضاً له أسبابه».
لعلنا نلاحظ هنا كيفية قيام الراوي بمحاولة تَمَثُّل وجهات نظر مختلف الأطراف بأكبر قدر ممكن من الموضوعية، وتحليل تأثير القرارات والخطوات على مستقبل مصر، كل ذلك يتم بقدر من الوضوح والسهولة دون اللجوء لمصطلحات سياسية معقَّدَة، حتى يصل الراوي لمشهد من أعقد المشاهد في تاريخ مصر المعاصر، وهو مشهد «فض اعتصام رابعة»، لا يتردد الراوي عن الإعلان عن حيرته حول هذا الفض، وعن عدم وجود معلومات كافية، حتى أنه يقول: « يومان من الاكتئاب ، لا أرد على أحد ولا أتصل، وأقول لأصدقائي إنني أكثر الأشخاص تعاسةً على مصير ثورة يناير، كنت حسن الحظ بالاطلاع على بعض ما يدور في الكواليس، وأشهد أنه لم يكُن من المخطط له نهائياً أن تصل الأمور إلى هذه المحطات والنهايات الدموية، لكن أيضاً بجريمة رابعة أحسست أنني تعرضت لخديعة ما بمشاركتي في ثورة يونيو المصنوعة، أصرخ في صمت، أقول لنفسي  يعنى أما آجي أكتب، هسجِّل في التاريخ  إنى كنت عارف إن هتحصل لهم مدبحة؟»
إن ما قدَّمه عمر قناوي هو كتابة منحازة لمصر فقط، وبها استبطان لمعنى الوطنية الحقيقية في لحظات صعبة من التاريخ، حاول فيها انتهاج الموضوعيَّة والتحلِّي بتوسيع الرؤية لتصبح معبرةً عن كافة الأطياف، كاشفةً لإيجابيات وأخطاء كل الأطراف– متى وجدت. انتهت روايته ببدايات تولي الرئيس السيسي للحكم، وبما يواجهه من صعوبة في محاربة آثار التشتت واهتراء قطاعات ومنظومات الجهاز الإداري للدولة، وبرغم توثيقية العَمَل نجح الراوي في أن يقدم أسلوباً أدبياً شيِّقاً يجذب القارئ حتى النهاية لكي يكمل قراءته، وربما بعد فترة من الزمن قد نجد تعقيباً من المؤلف على ما قدَّمَه بعدما يجود الزمان بتوضيح الكثير من الأسرار التي قام كتابه بالفعل  بكشف العديد منها، لكن من يعرف ماذا لم يُكشف بعد؟

* شاعر مصري مقيم في الخارج




[1] -  فيليب لوجون: السيرة الذاتية، الميثاق والتاريخ الأدبي، ترجمة عمر حلي، دار لنهضة العربية، بيروت، صـ10
[2] -  راجع: عبد الملك مرتاض: نظرية الرواية: بحث في تقنيات السرد، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، عالم المعرفة، 1998م، صـ184
[3] -  عمر قناوي: خبَّرني العندليب، دار الأدهم، القاهرة، 2012، صـ79